الحادثة: استهداف الطيران الأمريكي رأس عيسى على البحر الأحمر
تاريخ الحادثة: 17 أبريل 2025
الضحايا: مقتل 74 شخصًا وإصابة 171 آخرين
الأضرار المادية: تدمير واسع في البنية التحتية للمنشأة
نوع الهجوم: قصف طيران
المسؤولية الجنائية: الولايات المتحدة الأمريكية
صورة نشرتها قناة المسيرة للميناء في اليوم التالي للقصف
مقدمة
في منتصف أبريل 2025، تعرّض ميناء رأس عيسى النفطي، الواقع على الساحل الغربي لليمن، لغارات جوية نفذتها القوات الأمريكية ضمن ما وصفته بـ"الردع المحدود" ضد جماعة الحوثي، متهمة إياها باستخدام الميناء لأغراض عسكرية وتمويل أنشطتها من عوائده. إلا أن هذا الهجوم، الذي أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من المدنيين، أثار موجة إدانات حقوقية واسعة، وطرح تساؤلات حادة حول مشروعيته القانونية، وتداعياته الاقتصادية الكارثية، وعمق الانزلاق الدولي نحو إعادة تعريف مفهوم "الهدف العسكري" في بيئة حرب غير تقليدية.
يُعد ميناء رأس عيسى أحد الشرايين الاقتصادية الحيوية في اليمن، خاصة لمناطق سيطرة جماعة الحوثي، حيث تعتمد عليه في استقبال شحنات المشتقات النفطية التي تغذي القطاعات الخدمية والصحية والتجارية. وتدمير بنيته التحتية يمثل ضربة مزدوجة، أولًا للمدنيين الذين باتوا في مواجهة شح حاد في الوقود وارتفاع حاد في أسعاره، وثانيًا للاقتصاد المحلي الذي يعتمد على هذا المنفذ البحري في الحركة التجارية والنقل. وتُقدّر الخسائر المادية المباشرة بملايين الدولارات، بينما تتسع التداعيات لتطال الأمن الغذائي وقطاعات النقل والإنتاج.
يرتكز هذا التحقيق على منهجية «التحقيق المفتوح المصدر» (Open Source Investigation)، حيث تم تتبع وتحليل الصور ومقاطع الفيديو الموثقة، ومطابقتها مع خرائط الأقمار الصناعية، والتحقق من توقيت ومواقع القصف، بالاستناد إلى أدوات التحقق الرقمي ومصادر محلية وإعلامية. كما تم تتبع روايات الأطراف المعنية، وخصوصًا التناقضات بين الرواية الرسمية الأمريكية والتقارير الحقوقية وشهادات السكان المحليين، لتقديم صورة شاملة ومحايدة.
كما يستند التحقيق إلى تحليل قانوني مستمد من أحكام القانون الدولي الإنساني، وخاصة مبدأي "التمييز والتناسب"، لتقييم ما إذا كان القصف قد التزم بمعايير حماية المدنيين والأعيان المدنية. ويأخذ التحقيق أيضًا في الاعتبار موقع الحكومة اليمنية الشرعية من هذه الضربات، ومدى انسجامها مع مبدأ السيادة وعدم التدخل المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة.
يهدف التحقيق إلى تقديم مادة موثقة وقابلة للمساءلة، تُسهم في كشف الحقيقة أمام الرأي العام المحلي والدولي، وتُتيح للضحايا والأطراف المهتمة أدوات للمرافعة القانونية، أو المطالبة بالتعويضات، أو محاسبة الفاعلين، في وقت تُواجه فيه الحروب غير المتكافئة مخاطر تمييع القانون، وتحويل الساحات المدنية إلى مناطق مباحة للقصف والتأويل.
السياق العام للأحداث وتطورها
منذ أواخر عام 2023، بدأت جماعة الحوثي في تصعيد عملياتها البحرية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، مستهدفة سفنًا تجارية على صلة بالولايات المتحدة وإسرائيل، في ما وصفته برد عملي على الحرب الإسرائيلية في غزة، وضمن استراتيجية "الردع المتبادل" كما تسميها. هذا التصعيد دفع الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف بحري دولي لحماية الملاحة، ثم إلى تنفيذ ضربات جوية مباشرة على مواقع تابعة للحوثيين في صنعاء والحديدة ومناطق أخرى منذ يناير 2024. وفي هذا السياق المتوتر، جاءت غارة 17 أبريل 2025 على ميناء رأس عيسى كأحد أكثر الهجمات إثارة للجدل، نظرًا لأنها استهدفت منشأة نفطية مدنية تُستخدم لتزويد مناطق واسعة من اليمن بالوقود.
الغارة لم تكن معزولة، بل جاءت بعد سلسلة ضربات مماثلة استهدفت مطار صنعاء، محطة كهرباء في الحديدة، ومواقع اتُّهمت بأنها قواعد لإطلاق الطائرات المسيّرة. ومع ذلك، فإن استهداف ميناء رأس عيسى تحديدًا مثّل نقطة تحول نوعية، إذ حمل دلالات متعددة: اقتصادية، باعتباره منشأة حيوية لتأمين الوقود، وإنسانية، نظرًا لاعتماده من قبل منظمات الإغاثة كممر لنقل المساعدات، وقانونية، بسبب الجدل حول ما إذا كانت المنشأة تشكل هدفًا عسكريًا مشروعًا أم لا.
الحكومة اليمنية الشرعية، التي غُيّبت فعليًا عن مسار القرار العسكري، سارعت إلى إصدار بيان مقتضب أدانت فيه الهجمات، ورفضت استخدام الأراضي اليمنية كساحة لتصفية الحسابات الإقليمية. في المقابل، اعتبر الحوثيون أن الميناء كان مستهدفًا منذ سنوات، واتهموا واشنطن بمحاولة خنق الحياة الاقتصادية في مناطق سيطرتهم.
تطور هذا الحدث لا يمكن عزله عن سياق أوسع يتمثل في تغير قواعد الاشتباك بين الأطراف المحلية والدولية في اليمن، وتنامي النفوذ الإيراني في دعم الجماعة، والتراجع النسبي لدور مجلس الأمن في فرض أي ضوابط قانونية فعالة، مما يفتح الباب أمام فوضى قانونية تمس جوهر السيادة اليمنية وحقوق المدنيين.
الموقع
مساء 17 أبريل 2025، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية شن غارات على منصة للوقود في ميناء رأس عيسى على البحر الأحمر، الذي يقع بين مينائي الحديدة والصليف، ويبعد عن ميناء الحديدة حوالي 57 كيلو مترا جهة الشمال، وهو ميناء طبيعي يفصله عن جزيرة كمران مضيق بعرض 2 كيلو متر تقريبا.
الغارات
قالت القيادة المركزية الأمريكية إنها استهدفت مصدر دخل لجماعة الحوثي التي تصنفها منظمة إرهابية أجنبية، ومصدر يمدها بالوقود ويدعم عملياتها العسكرية ويفيدها اقتصاديا.
وذكرت وكالة سبأ في نسختها الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، مساء 17 أبريل 2025، أن سلسلة من الغارات الأمريكية استهدفت ميناء رأس عيسى.
لقد استهدفت الغارات بوابة الدخول للمنشأة ومنطقة الخزانات ومناطق متفرقة كانت تتجمع فيها قاطرات، إضافة إلى استهداف منطقة المراقبة، كما تُظهر ذلك بيانات الأقمار الاصطناعية لمواقع الضربات الجوية.
صورة عبر الأقمار الاصطناعية تُظهر أماكن الغارات الجوية التي استهدفت رأس عيسى
الضحايا والخسائر
وفي اليوم التالي، أعلنت وزارة الصحة العامة والسكان، في حكومة الحوثيين، أن تلك الغارات خلفت 245 قتيلا وجريحاً، منهم 74 قتيلا و171 جريحا، من العمال والموظفين في الميناء، في حصيلة غير نهائية.
بينما تحدثت جهات حكومية أخرى عن سقوط 80 قتيلا و150 جريحا.
وتقول مصادر محلية إن عدد المقطورات التي طالها القصف واشتعلت فيها النيران، يصل إلى 20 مقطورة تقريبا، أغلبها مقطورات الغاز، غير أن هذا الرقم لم يُذكر في أية مصادر رسمية رغم مضي أيام على الحادثة.
صور بثتها قناة المسيرة تُظهر آثار الدمار الذي طال ميناء رأس عيسى جراء الغارات
وفقا للصور والمقاطع المتداولة عن القصف الأمريكي، والتي تحققنا من صحتها فقد طال القصف الجهة الشمالية من رأس عيسى، باتجاه الصليف وجزيرة كمران. قام بحَّار سوري على متن سفينة أخرى كانت راسية في الصليف بـ توثيق لحظات القصف ونشرها كقصص سريعة عبر صفحته على الفيس بوك. قمنا بالبحث عن اسم السفينة التي يعمل عليها ووجدنا صورة تظهر رقم تسجيل السفينة، وبالبحث عنها تبين فعليا أنها سفينة FORZA ROMA، والتي كانت متوقفة في الصليف في موقع يسمح للبحار بالرؤية والتصوير، ومن مطابقة الخرائط وجدنا أن زاوية التصوير كانت مناسبة لتصوير الضربة في رأس عيسى فعليا، وهو ما يؤكد صحة المشاهد التي تم تداولها.
واقع ميناء رأس عيسى
في يناير 2016 تعرض ميناء رأس عيسى لغارات طيران التحالف العربي الداعم للشرعية في اليمن، استهدف القصف منشأة نفطية غير مكتملة شمال رأس عيسى، تابعة لـ أحمد صالح العيسي -استولى عليها الحوثيين- مما أدى إلى تدميرها جزئيا، وأسفر عن سقوط قتلى وجرحى، كما أدى ذلك القصف إلى تدمير عدد من الخزانات ومنشآت التعبئة إلى القواطر، لتتبقى 3 خزانات فقط، والتي استهدفتها الضربة الأمريكية مساء 17 أبريل 2025.
كانت شركة صافر الحكومية قد شرعت في بناء خزانات للنفط الخام في المنطقة الجنوبية الغربية من رأس عيسى، وتحديدا على مسافة أكثر من 2 كيلو متر غربي قرية رأس عيسى، لكن المشروع لم يكتمل، كما تُظهره صور الأقمار الاصطناعية، إذ أُوقف المشروع من قبل الحوثيين الذين سيطروا على صافر وكل المؤسسات الحكومية.
الموقع الافتراضي لخزانات شركة صافر في رأس عيسى (مشروع متوقف)
واستمر الحوثيين باستخدام خزانات الوقود التي تعود في الأصل للعيسي، وبعد تحويل الناقلات النفطية والغازية مساراتها إلى رأس عيسى تكدست السفن في الميناء بشكل كبير، وصارت السفينة الواحدة تنتظر أسابيع عدة حتى تفرغ حمولتها من المشتقات النفطية أو الغاز المنزلي، لعدم وجود قدرة استيعابية للكميات النفطية الواصلة، وظل تحميل النفط يتم بصورة مباشرة من السفن إلى القاطرات، وبين حين وآخر يقوم الحوثيون ببناء لسان بحري جديد حتى وصل عدد الألسن البحرية إلى 6 ألسن ورصيف عائم. ولم يتوقف الحوثيون عند ذلك، حيث أضافوا خزانات جديدة، لكن كاستثمارات خاصة.
الألسن البحرية والرصيف العائم الذي استحدثه الحوثيون مؤخرا في رأس عيسى
استهداف متكرر
بين عامي 2023 و2025 كانت منطقة رأس عيسى هدفا للعديد من الغارات الإسرائيلية والأمريكية، ورغم طبيعة عمل الميناء المرتبطة أساسا بكونه منفذ وصول المشتقات النفطية إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، إلا أن تلك الغارات لم تستهدف الميناء بصورة مباشرة ونهائية كما حصل في الغارات الأخيرة يوم 17 أبريل 2025.
وطوال تلك الفترة، ظل الميناء في نظر اليمنيين وغيرهم واحداً من الأعيان المدنية، لكن ما تكشفه صور الأقمار الصناعية يؤكد أن جماعة الحوثي قد سعت جاهدة لتعريض الميناء للقصف، إذ تظهر صور وخرائط الأقمار الصناعية أن الجماعة قامت خلال العامين الماضيين ببناء شبكة متشعبة من الخنادق العسكرية والتحصينات على مساحات واسعة من الجهة الغربية، والتي كانت قبل العام 2010 مواقع تابعة للدفاع الساحلي، دون وجود ميناء نفطي أو شركات تجارية. وتبدأ هذه الشبكة من مسافة 1 كيلو متر جنوب مصنع السكر وتمتد بشبكة متفرعة نحو الجهة الغربية للميناء، لتصل إلى موقع عسكري متكامل يبعد قرابة 1 كيلو متر، أيضا، من البوابة الخارجية للميناء، والذي يُحاط بسواتر ترابية ترتفع قرابة 3 أمتار.
صورة تُظهر بداية الخنادق المستحدثة بعرض 7 أمتار
تمتد الخنادق إلى موقع عسكري متكامل يبعد قرابة 1 كيلو متر عن بوابة الميناء الخارجية
صورة تُظهر موقعًا عسكريًا مُحاط بسواتر ترابية ترتفع قرابة 3 أمتار
إن وجود المعسكرات والتجهيزات بتلك الصورة، في منطقة مدنية يقطنها آلاف المدنيين - الذين يعملون في نقل المشتقات النفطية أو العاملين في مصنع تكرير السكر أو السكان من أبناء المنطقة - يعرض حياة هؤلاء الناس للخطر بشكل مباشر، خصوصا والجماعة في حالة حرب، ناهيك عن أن المنطقة تتعرض للقصف سواءً الإسرائيلي أو الأمريكي، وبالتالي كان يجب توقع حدوث هذه الغارة - في ظل تصاعد المواجهات - وعمل التدابير اللازمة لتقليل حجم الخسارة البشرية أو تلافيها، كما كان بإمكان القوات الأمريكية - التي ادعت أنها قصفت منشأة تزود الحوثيين بالوقود - إصدار تحذيرات والمطالبة بإخلاء المنشأة كونها عرضة للقصف، طالما أنها ذكرت أن القصف لم يكن يهدف إلى إيقاع ضحايا.
أبرز حوادث استهداف ميناء رأس عيسى (تسلسل زمني)
مخطط زمني للهجمات التي طالت ميناء رأس عيسى خلال الفترة سبتمبر 2024 - مايو 2025
الصورة الناقصة
يتحفظ الحوثيون على كل ما يخرج من صور وفيديوهات ومعلومات من مناطق سيطرتهم، حيث يدلون فقط بروايتهم من الزاوية التي يريدونها، وينشرون الصورة التي يرغبون بنشرها، وبالتالي فإن كل الصور والفيديوهات القادمة من رأس عيسى تظل مشاهداً موجهة من زاوية واحدة، تُغفل الزوايا الأخرى التي قد تُظهر الصورة الكاملة لحقيقة ما يجري.
السفن في رأس عيسى
وفقا لأدوات تتبع السفن وخرائط الأقمار الصناعية، تتواجد في رأس عيسى 16 ناقلة نفط، وتظهر حركة الميناء -في أدوات تتبع السفن- عدم وجود أية سفينة جديدة متوقع وصولها إلى الميناء منذ 8 أبريل، بعد وصول آخر سفينة من ميناء جيبوتي (الناقلة JAG).
ناقلات النفط المتواجدة في ميناء رأس عيسى، 8 أبريل 2025
ووفقا لمصادر موثوقة، فقد هددت جماعة الحوثي باستهداف سفينة كانت تحاول المغادرة، كما هددت باعتقال البحارة الذين قاموا بالتقاط فيديوهات من على السفن لحظة وقوع القصف، وربما تكون قد قامت باحتجازهم فعليا، لكن البحارة نشروا قصصا سريعة الاختفاء، لم ينتبه لها الحوثيين في وقت الضربة.
الأضرار الاقتصادية
تسود اليمن مخاوف واسعة من أضرار اقتصادية جسيمة جراء الغارات الأميركية التي استهدفت ميناء رأس عيسى النفطي الاستراتيجي في محافظة الحديدة المطلة على البحر الأحمر غرب البلاد. ويتوقع خبراء أن يؤدي تدمير الميناء إلى انعكاسات اقتصادية مباشرة، لا تقتصر على جماعة الحوثي، بل تمتد إلى حياة المواطنين في المناطق الخاضعة لسيطرتهم. يُعد ميناء رأس عيسى من أهم المنافذ البحرية التي ما زالت تحت سيطرة الحوثيين، وتدميره يشكل تطورًا خطيرًا ينعكس على الوضع الاقتصادي للجماعة والسكان المحليين على حد سواء.
أوضح خبراء أن توقف الميناء سيؤدي إلى أزمة خانقة في إمدادات الوقود، وارتفاع أسعاره في السوق المحلية. هذا يخلق فجوة تموينية تزيد من تكلفة السلع والخدمات. كما يؤثر بشكل مباشر على تكاليف النقل والإنتاج. تشير التقديرات الأولية إلى أن القصف أدى إلى تدمير ما لا يقل عن 70% من سعة التخزين في الميناء، مما يهدد بنقص حاد في مادة الديزل خلال أيام قليلة، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثي وتعتمد على رأس عيسى كمصدر رئيسي للإمدادات. شهود عيان أفادوا أن الطوابير أمام محطات الوقود بدأت تتشكل في الحديدة وريمة وحجة، وسط ارتفاع حاد في الأسعار في السوق السوداء.
بالإضافة إلى ذلك، ستتأثر قطاعات حيوية عدة بشكل مباشر جراء الضربة الأميركية. الكهرباء التي تغذي المنازل والصناعة ستتأثر بشدة. ستكون الزراعة من أبرز المتضررين، نظرًا لاعتمادها على الوقود في تشغيل مضخات المياه. ستواجه المستشفيات والمرافق الصحية صعوبات كبيرة بسبب نقص إمدادات الطاقة، ما سيرفع من كلفة الخدمات الطبية، وربما يعيق تقديمها بالكامل، ومن منظور اقتصادي بحت، فإن قصف ميناء رأس عيسى يُعد ضربة مباشرة لعقد النقل والإمداد في اليمن، لا سيما في ظل اعتماده كمنفذ رئيسي لتدفق الطاقة والسلع إلى الأسواق المحلية، وبخاصة في المناطق الشمالية.
أدى تدمير البنية التحتية للميناء إلى شلل في خطوط التوزيع، واضطرابات في حركة الإمداد، ما تسبب في ارتفاع تكاليف التشغيل والنقل، وانعكس على أسعار التجزئة بشكل شبه فوري. كما أدى توقف عمليات التوريد إلى إغلاق مؤقت في العديد من المنشآت الخدمية والإنتاجية المعتمدة على الوقود، مما خفّض الإنتاجية وزاد من معدلات البطالة غير الرسمية. ويدفع هذا الوضع بمزيد من الضغط على الاحتياطات النقدية المحدودة في السوق، ويؤدي إلى توسع السوق السوداء، حيث يغيب التحكم المركزي، وترتفع مستويات المضاربة. إن هذا النوع من الاستهداف يُحدث صدمة مزدوجة: مباشرة من خلال التدمير، وغير مباشرة عبر تقويض قدرة الدولة على إدارة النشاط الاقتصادي في المناطق الأكثر هشاشة. كما يسهم في تعميق الانقسام بين مناطق النفوذ السياسي، حيث تُستخدم الموانئ والبنى الاقتصادية الحيوية كأدوات في الصراع لا كمرافق وطنية.
الأثر الإنساني
نبه خبراء إلى أن الأثر الإنساني والاجتماعي سيكون بالغًا. سيؤدي تقييد حركة السلع داخل المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين إلى صعوبات كبيرة في إيصال المساعدات الإنسانية، لا سيما إلى المناطق النائية. هذا قد يفاقم من أزمة انعدام الأمن الغذائي في البلاد. أكد صحفي اقتصادي أن عرقلة وصول المواد الغذائية ستزيد من تعقيد الوضع الإنساني المتدهور في اليمن. كما أن توقف الميناء سيتسبب في إشكاليات كبيرة في سلاسل الإمداد، ويعيق وصول المواد الغذائية والسلع الأساسية إلى الأسواق المحلية. المؤسسة التابعة للحوثيين أكدت أن التعطيل سيزيد من معاناة الشعب اليمني التي تفاقمت جراء الحصار المفروض منذ أكثر من عشر سنوات.
كما تسبب الدمار الواسع في فقدان مئات العمال لأعمالهم، كثير منهم يعيلون أسرًا كبيرة، الأمر الذي أضاف طبقة جديدة من المعاناة الاقتصادية، وفي ظل غياب أي بدائل سريعة أو دعم إنساني كافٍ، وجد هؤلاء أنفسهم أمام مستقبل مجهول.
وأكد الباحث الاقتصادي عصام مقبل، أن استهداف منشأة اقتصادية مدنية مثل ميناء رأس عيسى في ظل وضع اليمن الراهن يعتبر بمثابة جريمة حرب؛ لأنّ تبعاته ستكون وخيمة في تفاقم الأزمة الإنسانية والمعيشية في اليمن.
شهادات الناجين
اطلعت سام على شهادات ناجين تحدثوا للتلفزيون العربي، حيث أفاد أحد الناجين بقوله: "أنا كنت موجود شفنا لهيب نار صواريخ هزت [قلوبنا] أفجعت الموظفين والعمال"، وأضاف آخر: أحرقوا الموظفين وأحرقوا السواقين أحرقوا كل حاجة، والصواريخ حقهم أحرقوا لنا البوابة، دقوا لنا البوابات قدام ما يدقو إحنا علشان ما فيش أي خروج، سواءً بابور سواءً موظف سواءً سواق سواءً أي واحد.. ما فيش أي خروج من طريق البوابة.. دقوا لنا إياها جميعا وقاموا بعدما حرقونا في البترول دقوا شركة الغاز دقوا الإسطوانات حق الغاز.. والصواريخ قامت تنفجر فوقنا فوق زملائنا وأحرقوهم وموتوهم كامل". وتابع ناجٍ آخر بقوله: "منهم من توفى أمامي، أصحاب توفوا جنبي، ومنهم من قطعت أرجله هناك أثناء الضرب بسبب الشظايا".
التحليل القانوني
في سياق القانون الدولي الإنساني يمثل قصف ميناء رأس عيسى خرقًا جسيمًا للقانون الدولي، لا سيما المادة 52 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تنص بوضوح على حماية الأعيان المدنية من الهجمات ما لم تُستخدم بشكل مباشر في أعمال عسكرية. وبالنظر إلى عدم تقديم أدلة قاطعة على أن الميناء كان يُستخدم لأغراض عسكرية، فإن الضربة الجوية عليه تُعد انتهاكًا لمبدأ التمييز والتناسب. كما يُعد استخدام الولايات المتحدة للقوة في أراضي دولة عضو في الأمم المتحدة، دون تفويض من مجلس الأمن أو موافقة رسمية من الحكومة اليمنية، مخالفًا للمادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تحظر التهديد باستخدام القوة ضد سلامة أراضي أي دولة. وفقًا لهذه المرجعيات، تُطرح في هذا السياق مستويات متداخلة من المسؤولية القانونية، تستوجب تحليلًا دقيقًا.
أولًا: تتحمل جماعة الحوثي، بصفتها كيانًا متمردًا يفتقر إلى أي شرعية دستورية أو دولية، المسؤولية عن استدراج الضربات الخارجية من خلال أفعال عدائية غير مشروعة تجاوزت صلاحياتها وخرقت سيادة الدولة اليمنية، بما في ذلك شن هجمات عبر الحدود دون أي تفويض قانوني.
ثانيًا: تُحمّل الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية خرق قواعد القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، جراء استخدامها القوة العسكرية في أراضي دولة عضو في الأمم المتحدة دون تفويض أممي أو موافقة رسمية من الحكومة اليمنية الشرعية. فالمادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة تحظر اللجوء إلى القوة ضد سلامة أراضي أي دولة، إلا في حالات الدفاع المشروع أو بتفويض من مجلس الأمن. كما أن الضربة الجوية على منشأة مدنية كميناء رأس عيسى، دون تقديم أدلة موثوقة على استخدامها لأغراض عسكرية، يمثل خرقًا للمادة 52 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تحظر استهداف الأعيان المدنية، وتشترط التمييز والضرورة والتناسب. إن غياب تلك الشروط يجعل الاستهداف غير مشروع، ويفتح الباب أمام المساءلة الدولية، بما فيها المسؤولية الجنائية المحتملة أمام المحكمة الجنائية الدولية إذا ما ثبت توفر أركان الجريمة من حيث النية والنتائج.
ثالثًا، يثير صمت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا إشكالًا سياسيًا وقانونيًا، إذ يُفترض بها، بوصفها السلطة الشرعية، رفض أي اعتداء على أراضيها خارج إطار التنسيق الرسمي، وتفعيل أدواتها القانونية والدبلوماسية للاحتجاج والدفاع عن سيادتها. إن غياب رد واضح أو تحرك دولي فاعل يُضعف الموقف التفاوضي والسيادي للحكومة، ويُرسّخ صورة دولية مفادها أن اليمن ساحة مفتوحة، تتقاطع فيها القرارات العسكرية دون مرجعية مؤسسية وطنية. وبذلك، تتقاطع المسؤولية على ثلاثة محاور: جماعة انقلابية تجاوزت القانون، ودولة أجنبية انتهكت السيادة، وحكومة شرعية غائبة عن حماية اختصاصها السيادي.
التوصيات القانونية
استنادًا إلى قواعد القانون الدولي الإنساني ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ومع الأخذ بعين الاعتبار الالتزامات القانونية لحماية المدنيين واحترام السيادة الوطنية، يُوصى بما يلي:
أولًا: الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا
اتخاذ مسارات دبلوماسية وقانونية للتنديد بأي تدخل عسكري يتم خارج إطار التنسيق الرسمي معها.
تفعيل الآليات الوطنية والدولية للتحقيق في الانتهاكات وتوثيقها، بما يعزز حماية السيادة اليمنية.
التأكيد على حقها الحصري في إدارة الشؤون السيادية، ومطالبة جميع الجهات الخارجية باحترام هذا الحق.
ثانيًا: جماعة أنصار الله (الحوثيين)
الالتزام الصارم بقواعد القانون الدولي الإنساني، مع تجنب استخدام المنشآت المدنية لأغراض عسكرية.
التعاون مع الجهات الدولية المحايدة لتقييم الوضع والتحقق من مدى الأضرار.
ضمان توفير الحماية للمدنيين وعدم تعريضهم لأي مخاطر ناتجة عن الأعمال العسكرية.
ثالثًا: الولايات المتحدة الأمريكية
الامتناع عن استخدام القوة في أراضي دولة ذات سيادة دون تفويض قانوني واضح أو موافقة رسمية من الحكومة المعترف بها.
التقيد بمبادئ التمييز والتناسب في أي عمليات عسكرية يتم تنفيذها.
إجراء تحقيق شفاف في الواقعة والنظر في توفير التعويضات للمتضررين، في حال ثبت وقوع انتهاكات.
رابعًا: منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن
إرسال بعثة مستقلة ومحايدة لتقصي الحقائق حول استهداف ميناء رأس عيسى.
مراجعة الأطر القانونية المنظمة لاستهداف البنى التحتية المدنية في النزاعات المسلحة المعقدة.
دعم آليات المساءلة الدولية ومحاسبة أي طرف يثبت تورطه في خرق القانون الدولي.
خامسًا: الكيان الإسرائيلي
الالتزام الكامل باحترام سيادة الجمهورية اليمنية، والامتناع عن أي أعمال عسكرية خارج نطاق القانون الدولي.
التوقف الفوري عن أي ممارسات تنتهك السيادة اليمنية، وضمان عدم استهداف المنشآت المدنية تحت أي ظرف.