شاحنة الجحيم: محرقة تعز بعد عشر سنوات
  • 06/10/2025
  •  https://dg.samrl.org/l?a5608 
    منظمة سام |

    قبل عشر سنوات، وتحديداً في مايو/أيار 2015، غيّرت شاحنة وقود محملة بالبنزين، خط سيرها، هرباً من الاشتباكات النارية حول ووسط مدينة تعز اليمنية. كانت المدينة تعيش حالة حصار بالفعل، فرضه مسلحو جماعة الحوثي المصنفة كمنظمة إرهابية. حينها كان الاقتصاد اليمني آخذ في الانهيار، والأوضاع المعيشية تهرول نحو المأساة، بينما كانت البلاد تشهد أزمة خانقة في المشتقات النفطية.  هذا ما جعل لشاحنة النفط التي دخلت مدينة تعز، قيمة مضاعفة من النواحي الإنسانية والاقتصادية والعسكرية.
    نجت الشاحنة من الاشتباكات المباشرة، لكنها لم تنج من تداعيات الحرب.
    في وسط الحي السكاني الذي تعطلت فيه، اندلعت النار في شاحنة البنزين، فالتهمت أجساد عشرات المدنيين المتجمهرين، في واحدة من أفظع المآسي الإنسانية التي حدثت في اليمن على هامش الحرب.

    سوق جديد
    تبدأ رحلة شاحنة البنزين مع بداية الحرب. حيث سعى الحوثيون إلى إحكام قبضتهم على تجارة النفط بقرار ما سُمّي بـ"تعويم المشتقات النفطية"، يأتي ذلك في سياق إدراكهم لأهمية هذا المورد الذي يشكل ما يقارب من 75% من إيرادات الموازنة العامة للدولة، بحسب ما نقلته وكالة سبأ الرسمية عن وزير النفط اليمني سعيد الشماسي العام الماضي. هذا الارتباط الوثيق بين النفط والاقتصاد الوطني كان الدافع الرئيس لمحاولات الحوثيين الوصول إلى منابع الإنتاج والتصدير، وفي مقدمتها منشأة صافر في مأرب شرقي البلاد، وهي المنشأة النفطية الأكبر في اليمن، غير أن المقاومة المسلحة حالت دون سيطرتهم عليها. بالمقابل، تمكن الحوثيون من فرض سيطرتهم على محافظة الحديدة الساحلية غرب البلاد، بمينائها الاستراتيجي ومنشآتها النفطية في رأس عيسى والصليف.
    شرع الحوثيون بالتحكم بسوق النفط بما يخدم مصالحهم الاقتصادية، عبر تطويع آليات الاستيراد، وخلق بيئة فساد ممنهجة تشمل التلاعب بالكميات للحصول على غرامات التأخير، وفرض جبايات تحت مسمى "المجهود الحربي"، وإضافة خمسة ريالات على كل لتر وقود يدخل البلاد، إلى جانب التهريب وتنشيط السوق السوداء.
    تحول الوقود من مورد وطني يفترض أن يخدم المواطنين إلى أداة حصار داخلي فاقمت معاناتهم المعيشية، وشهدت اليمن أزمات نفطية متقطعة، وخانقة. في إبريل 2015، توقفت بعض المستشفيات في محافظتي عدن وتعز عن العمل بسبب نفاد الديزل. في المجمل، كانت الأزمة مضاعفة في مدينة تعز، نتيجة إطباق الحوثيين حصارهم على المدينة.

    طريق إجباري
    في تعز، اشتدت المواجهات المسلحة بين مسلحي جماعة الحوثي، وقوات المقاومة المشكلة من مسلحين مدنيين والجيش الوطني. كان الحوثيون المسنودون بقوات عسكرية كانت موالية للرئيس الأسبق علي صالح، يسيطرون على تلال وسط المدينة مثل قلعة القاهرة والأمن السياسي والإخوة، ما جعل الشوارع الجنوبية الرئيسية في المدينة، تحت السيطرة النارية للجماعة فعلياً. بينما كانت المعارك تدور في محيط جبل جرة وجبل وعش شمالي المدينة، ما يجعل تقدم الشاحنات والسيارات باتجاه شرقي المدينة أو شمالها خطراً. تحكم الحوثيون بالطرق الرئيسية وخطوط الإمداد، وفرضوا تدابير أدت إلى شل حركة المدنيين وتقييد حرية التنقل، وفرض قيود على دخول البضائع والمساعدات الغذائية والدوائية.   
    وسط هذا الظرف المعقد، وصلت شاحنة الوقود التي كانت محملة بنحو 45 ألف لتر من البنزين. اضطر السائق أن يمر بالشاحنة في مسارات غير التي تسلكها عادةً، خوفاً من أن يستهدفها قناصو جماعة الحوثي كما يقول أحد أبناء حي الضربة في المدينة.
    في حي الضربة السكان، سقط عمود الدوران "الكردان"، فأوقف السائق الشاحنة وسط الطريق الذي لا يصلح لمرور الشاحنات الطويلة، حينها جاءت سيارات تابعة للمقاومة الشعبية والجيش، بغرض الحصول على وقود. بعد تعبئة عدد من البراميل، نزل سبعة مسلحين ينتمون للحي نفسه وأوقفوا عملية التفريغ، مؤكدين أن الشحنة من نصيب المواطنين. وإثر ذلك تدخلت شخصيات محسوبة على المقاومة الشعبية لحل الإشكالية مع مسلحي الحي عبر وسيطين من الحي نفسه.
    وفق إفادة أحد الوسطاء، فإن المسلحين المنفلتين رفضوا رفضاً قاطعاً السماح بإتمام التفريغ إلى داخل البراميل، وخوفاً من أي مشاكل بينية في ذلك الظرف غادرت السيارات التابعة للمقاومة الشعبية والجيش الوطني.

    مأساة في قلب الحرب
    كانت أزمة المشتقات النفطية في الأسواق الرسمية خانقة، ومع احتدام الحرب والحصار على مدينة تعز تحديداً، تدهورت أحوال الناس المعيشية. الأجواء السائدة في مايو 2015، شجعت اليمنيين، بمن فيهم المواطنين، للإقبال على السوق السوداء.
    قال أحد ضحايا شاحنة الوقود: «كانت قيمة الدبة البترون 20 لتر تصل إلى 50 ألف ريال يمني (قرابة 200$ حينها) خرج بعض المواطنين بالقدور للتعبئة من خزان القاطرة، الناس جوعى».
    عند منتصف الليل بدأت عملية تفريغ البنزين إلى أوعية بلاستيكية "جوالين"، بطرق بدائية ودون إجراءات سلامة. في الصباح، وحسب ما أظهرته الأدلة المرئية، احتشد عدد كبير من المواطنين في المكان، أصحاب السيارات والباصات وملّاك الدراجات النارية، كان الناس مثل النمل، يشفطون البترول من فتحات الخزان.
    في لحظة خاطفة تحولت المنطقة إلى كتلة لهب، خلفت عشرات القتلى والجرحى. يظهر أحد مقاطع الفيديو والدخان الأسود يتصاعد بكثافة. المدنيون مرعوبون، يفرون من المكان، بعض الأهالي يبحثون عن أقاربهم، امرأة تبكي وتسأل: ابني أين هو؟
    وقعت المحرقة في الساعات الأولى من صباح 25 مايو/أيار 2015، ومنذ ذلك الوقت، لا يوجد احصائيات رسمية دقيقة حول الخسائر البشرية والمادية للمحرقة. بينما بلغ عدد الحالات التي وثقتها منظمة سام للحقوق والحريات، 113 حالة، من بينها 42 قتيلاً.
    بحسب الإفادات التي وثقناها، فقد تكدست الجثث المحترقة.. التصقت جلود الضحايا بالحديد.. ذابت الملابس.. وامتد الحريق إلى البنايات المجاورة، الدراجات، السيارات. أظهرت الصور التي تفحصناها، بقاء عدد من الجثث المتفحمة في الشارع، إلى وقت متأخر، قال أبناء الحي أنه لم يستطع أحد التعرف عليها.

    فقدان الضحايا
    يعد مستشفى الثورة أكبر المستشفيات الحكومية في مدينة تعز. في النصف الأول من سنة 2015، وبسبب قصف الحوثيين، غادر معظم الاطباء والاستشاريين والفنيين ولم يتبق غير مجموعة صغيرة لا تتجاوز الاربعين موظفاً تشمل اطباء وممرضين وصيادلة ومخبريين وعمال نظافة وخدمات مساعدة، حسب إفادة رئيس لجنة الطوارئ في المستشفى حينها الدكتور نشوان الحسامي.
    كانت معظم أقسام المستشفى مغلقة، بينما يجري استقبال جميع الحالات بما فيها الباطنية والجراحة والعمليات والحروق والرقود، في قسم الحروق كونه القسم الوحيد المحمي من القصف والقناصة الحوثيين، بقية المباني الخاصة بالمستشفى كانت معرضة للقصف او القنص او قذائف الهاون التي كانت تسقط على مباني المستشفى  وفي ساحته.
    يقول الحسامي، بأن المجموعة الأولى من ضحايا شاحنة البنزين وصلت وهم يعانون من الحروق من الدرجتين الثانية والثالثة وعدد كبير جداً من المرافقين، ثم وصلت الدفعة الثانية، وبعد ذلك وصلت الدفعة الثالثة، تجاوز عدد الحالات أكثر من 120 حالة، بينما كان المستشفى يعاني من عجز كبير في الكوادر الطبية والمستلزمات والمحاليل.  يضيف الحسامي: «حاولنا ان نخفف من هذه الكارثة والبدء بفرز الحالات الأكثر خطورة وتقديم الخدمات الطبية لها، حسب ما هو متوفر لدينا».
    بدأ الكادر الطبي، إدخال الحالات التي تحتاج عمليات الجراحية لغرض التنظيف وازاله الاجسام الميتة والمتعفنة وإجراء الجراحة تحت التخدير العام، وطبقاً لحديث الدكتور الحسامي: «فقدنا حالات في اليوم الثاني، وحالات في اليوم الثالث، وحالات بعد أسبوع، كان يمر علينا كل يوم ونفقد مريض»..

    الجاني المباشر

    وفق ثلاث إفادات فإن المتسبب المباشر بحريق الشاحنة، شاب يدعى "حسونة" طلب من المتجمهرين أن يفسحوا له المجال للحصول على البنزين، وأشهر ولاعته مهدداً بإحراق الشاحنة، وفجأة أشعل الولاعة ورمى بها إلى أرضية الشارع المبقعة بالبنزين، فاندلعت النار في المكان كله فجأة، وفق "م. ص" الذي أصيب بحروق من الدرجة الثالثة، وفقد شقيقه، أضاف: «ما درينا أين جثة أخي؟ قبروا سبع جثث متفحمة في قبر واحد».
    من بين الضحايا القتلى، ستة من المسلحين السبعة الذين أصروا على التصرف بالشاحنة. ومن بين الضحايا الجرحى، حسونة الذي أشهر الولاعة. وطبقاً للمعلومات التي توصلنا إليها فإن حسونة غادر مدينة تعز، الجزء الذي تسيطر عليه الحكومة المعترفة بها دولياً، ويعيش حالياً في الجزء الذي تسيطر عليه جماعة الحوثي، خشية من انتقام أقارب الضحايا وهرباً من الإجراءات القانونية.
    غياب الإجراءات
    هذه السنة، تبنى أبناء الحي مبادرة لتحويل شاحنة الوقود المحترقة إلى خزان للمياه. «ورغم ذلك لم تنطفئ آلامنا النفسية»، كما يقول أحد أقارب الضحايا. بينما يؤكد أحد الناجين، على استمرار معاناته الجسدية، أشار إلى قدمه، وقال: «حكيتها قبل يومين والان تحول إلى جرح».
    رغم مرور عشر سنوات، على المحرقة، لم تُسجل أي تحركات جادة لمعالجة هذا الملف. لم يحصل الضحايا حتى على الرعاية الصحية اللاحقة. كثير منهم ما زالوا يعانون حتى اليوم من آثار الحروق، ليس معاناة جسدية ونفسية فقط، بل وحتى مادية. أحد الضحايا قال: "بعت كل ما أملك لأشتري المراهم والأدوية" وأضاف: "لم نتلقَ أي دعم رسمي أو حتى منظمات دولية."
    بينما قال أحد أقارب الضحايا: "لسنا نطالب بالمستحيل، فقط نريد الاعتراف بضحايانا وإدراج أسمائهم في قوائم الشهداء والجرحى".
    وبهذا الصدد، تطالب منظمة سام للحقوق والحريات، باتخاذ خطوات جدية لتعويض الضحايا وعائلاتهم، على الأقل ضمهم إلى قوائم شهداء وجرحى الجيش ومنحهم رواتب شهرية، كما تطالب بفتح تحقيق مستقل وشفاف لتحديد المسؤوليات المباشرة وغير المباشرة عن المحرقة، ومعالجة الحادثة والأسباب التي أدت إلى إشعالها من جذورها، بما في ذلك إنهاء الحصار المفروض على تعز وضبط تجارة الوقود.

     


  •  
    جميع الحقوق محفوظة لمنظمة سام © 2023، تصميم وتطوير